اتكلمنا في المقالة اللي فاتت على إن الحكاية هي مركز تكوين الإنسان. وإن الإنسان بيتولد بالطبيعة بيحكي. والحكاية بقت هي الوسيط اللي من خلاله بيقدر يعبر عن كل حاجة في حياته. والحكاية بقت هي الوسيط اللي من خلاله يقدر يعرَّف نفسه ويقول أنا مين؟
عمرك سألت ابنك أو بنتك، أنت مين؟ جربوا كدة وشوفوا رد فعل ولادكم إيه. إسألوهم شايفين نفسكم إيه، خلوهم يعرفوا نفسكم قدامكم، وصدقوني هتندهشوا هم جابوا الكلام ده منين.
خطورة القصة إنها مش مجرد بتحسن من النشاط الذهني للطفل، أو إنها بتكسبه لغة، ...لأ الموضوع أخطر من كدة. القصة بتكون العالم بتاع الطفل. بتشكل الشباك اللي من خلاله الطفل بيشوف الدنيا بتاعته.
اتعلمت تجربة لمجموعة من الأطفال وحطوا قدامهم مجموعة صور لأشكال مختلفة: فيل، حمار، عربية، طيارة. وطلبوا من الأطفال دي إنها تقول مين أسرع حاجة في الحاجات دي، ومين أبطأ حاجة فيهم. وكانت المفاجأة إن الأطفال أجمعوا إن أسرع كائن هو الفيل. وده كان نتيجة إنهم شافوا في فيلم طرازان قد إيه الفيلة سريعة جدا جدا في الفيلم. والمفاجأة التانية إن أبطأ شيء بالنسبة لهم كان الطيارة، وده بسبب إنهم برضه بيشوفوا في أفلام الكرتون قد ايه السحاب بيمشي ببطء جمب الطيارة. فالحكاية هنا، قلبت مفهوم الطفل ونظرته عن بعض الأشياء 180 درجة.
أي حكاية بتتحكي من خلال مشاهد، والمشهد بيتكون من أحداث، والحدث فيه أفعال وأحاسيس وتعبيرات ومفردات. والعناصر اللي بتكون أي حكاية مكتوبة في الدنيا، هي نفسها العناصر اللي بتشكل العالم بتاع الإنسان من أول ما بيبدأ يتكون في رحم الأم.
حاجة زي اللغة الأم مثلاً، المفردات اللي بيكتسبها الطفل من أول ما بيتولد مش مجرد أداة بيكون بيها جُمَل مفهومة إن كانت اسمية أو فعلية، أو مش مجرد أداة بنحاول نعلمهاله علشان نعرف نتعامل مع بعض بدل لغة الإشارة اللي احنا مش عارفين نتواصل بيها مع أولادنا قبل الكلام. اللغة دي من أخطر العناصر اللي بتشكل وعي الطفل، وبتشكل رؤيته ومنظوره عن اللي حواليه، وبتكون عنده مفاهيم ومعاني. بتشكل العالم بتاعه.
خلوني آخد مثال، كلمة زي القمر مثلا. الكلمة دي في لغتنا العربية الدارجة كلمة مذكر. وبالرغم من كدة إلا إنها لها دلالات في عالم المؤنث. فالكلمة غالبًا ما تستخدم في وصف جمال المرأة. فيتقال للمرأة: إنتِ قمر. فالقمر هنا أصبح رمز للجمال الأنثوي. وهنا بتنتقل لمفهوم جديد في اللغة، إن الكلمة مبقتش بتعبر عن معناها، لكن بقت بتحمل إشارة ومدلول مختلف عن معناها الحقيقي.
يعني إيه الكلام ده....
مثال تاني للتوضيح أكتر. كلمة زي ثعبان، ليه أول ما بنسمعها قلبنا بينقبض؟ هو مش التعبان ده كائن لطيف ربنا خلقه زيه زي أي كائن حي تاني؟ علشان الكلمة دي مرتبطة في ذهننا بالتلاعب وإنها بتعبر عن شخص بيبث سم في تصرفاته وأفعاله. طب إيه اللي عمل الترابط ده؟ ليه بنربط التعبان بالمكر والدهاء والأفعال المسمومة؟ هي دي بقى فكرة تشكيل الوعي والشِّباك اللي بنبص منه.
حد سأل نفسه مثلا، ليه مش بيحب ولاده يقولوا صراحة كلمات زي "جزمة"، أو "كلب" وبيفضلوا يخلوهم يقولوا ألفاظ تانية زي "بوبي" أو "شوز"؟ علشان ببساطة الكلمات دي ليها دلالات سلبية في مجتمعنا. من الآخر الكلمات دي بتستخدم في الشتايم. يعني في ثقافات معينة، لو ناديت على واحد وقولت له يا كلب، يبقى أنت بتشتمه صراحة. في حين مثلا في بعض ثقافات تانية، لو وصفت حد بكونه كلب، يبقى أنتَ بتمدحه، مش بتشتمه. وده يورينا قد ايه الكلمة مش بتعبر عن مجرد معناها اللي موجود في القاموس، لكن بتحمل مفهوم ومعنى ورمزية مختلفة. والرمزيات دي زي ما شفنا في مثال كلمة كلب، بتختلف من ثقافة لثقافة.
فحتي المفردات البسيطة، اللي انتوا بتعلموها لولادكم، المفردات دي مش بتعبر عن مجرد شيء محسوس. يعني كلمة كلب مثلا مش معناها زي اللي هنلاقيه في القواميس ذلك الكائن اللي له أربع أرجل وبيصدر صوت اسمه نباح. وكذلك كلمة ثعبان. لكن كل كلمة من دول ليها مدلول معين في الوعي بتاعنا. لما بنسمع الكلمة دي أو دي، في إحساس معين بيوصلنا. إن كان إحساس بالراحة أو عدم الراحة، بالقلق، بالحب، بالدفا. والمعاني والدلالات دي هي اللي بتشكل وعينا ونظرتنا، هي اللي برتسم محددات الشباك اللي الطفل بيبص منه للعالم اللي حواليه.
طب ده يفرق معانا في إيه كأب وأم؟
يفرق معانا كأب وأم، إن كل كلمة ومفردة جديدة بندخلها لولادنا وراها حكاية، مش مجرد كلمة ليها معنى في القاموس. الفراولة مش مجرد فاكهة حمرا محببة، لكن ممكن تكون شايلة جواها ضحكة حلوة بابا كان بيضحكها لبنته وهو بيأكلها لها. والشوكولاتة مش معناها شوكولاتة، لكن معناها عند ابني مكافأة كل ما ابني يشرب اللبن اللي مش بيحبه. وكلمة زي "لأ" ممكن تكون عند طفل معناها أنا وحش علشان بقول لأ ومش بسمع الكلام. وعند طفل تاني معناها أنا عندي شخصية وبقدر أعبر عن رأيي. فكل كلمة جديدة تقريبا الطفل بيتعلمها شايلة في قلبها رسالة ورمز وعالم كامل من أحاسيس ومشاعر.
ولادنا بفتة بيضا خالص، معندهمش أي افتراضات مسبقة عن أي شيء، ومعندهمش أي أحكام مسبقة عن أي شيء، وميقدروش ينقدوا أي شيء لأنهم معندهمش مرجعية ينقدوا عليها. لو جبت للطفل علبة فيها خاتم وقلتله العلبة فيها فيل، هيصدقك. فخدوا بالكم أي رمز أو رسالة هتوصلوها لولادكم من خلال المفردات اللي بيتعلمها هيصدقها، لأ مش هيصدقها وبس هيؤمن بيها، وهتشكل كيانه ووعيه كله
السؤال بقى: أنتوا كأب وكأم لازم تفكروا كويس، عاوزين ابنكم فين بالظبط. عاوزين تخلوا ابنكم يبص من أنهي شباك؟ عاوزينه إنسان خلوق، مرهف الحس، فنان، محافظ، ليبرالي، منفتح على قضايا أخلاقية فيها مشاكل، مرتبط بربنا، منافق، مخادع، عصبي، رئيس عصابة؟
هتقولي إيه ده، ومين فينا أب ولا أم يتمنى إن ابنه يبقى رئيس عصابة؟
هقولكم للأسف آه، بس ده بيحصل في اللاوعي بدون ما تحسوا. هحكيلكم حكاية صغيرة سمعتها من فترة عن أسرة كانت عايشة في قرية ما. ابنهم كان شقي شوية، فكان كل ما يشاغب مع أصحابه أو يضربهم أهله والناس اللي حواليه يضحكوا بهزار ويقولوا: الواد ده شكله لومانجي. (يعني بتاع لومان). وفي الرايحة والجاية، أهله بقوا ينادوه، يا واد يا لومنجي. والولد كبر واتحول لبلطجي وتمر الأيام ودخل اللومان فعلا. كلمة كانت بتتقال بهزار لولد شكلت مصيره كله علشان الرسالة اللي وصلتها الكلمة دي، رسالة مكنش المفروض توصل له، وهي إن كلمة لومنجي دي بقت بتديله وجاهة وشخصية، مش كدة وبس دي شكلت العالم بتاعه كله، وبقت بتعرفه هو مين.
أولادنا مش بيتعلموا مجرد مفردات لغوية، والمفردات دي مش مرتبطة بس بالجهاز العصبي والنشاط الذهني للطفل. أولادنا بيتعلموا رموز ورسايل من خلال كل كلمة بتدخل لهم، من خلال كل تعبير بنوصله لهم. والرسايل اللي بتوصلهم دي من خلال المفردات عبارة عن حكاوي وهي اللي بتشكل العالم بتاعهم. ومن خلاها الطفل بيقدر يكون تصور عن نفسه وعن العالم بتاعه.
وهنا بيجي أهم سؤال في الموضوع كله، هل نقدر على مستوى المجتمع، أو على مستوى الأسرة نعيد النظر تاني في كل مفرداتنا اليومية؟ بنقول ايه وبنسمع إيه في يومنا؟ إيه اللي بيشكل يومنا كأب وأم؟ وإيه اللي شكل حياتنا كأب وأم واحنا صغيرين وأثر علينا وشكل وعينا؟ هل فكرتم كأب وأم تفرزوا وتغربلوا تاني المفاهيم اللي اتكونت عندكم، وإللي في يوم هتكون عبارة عن حكاوي بتشكل وعي طفلكم؟ أعتقد ده ممكن ومش مستحيل حتى على مستوى الأسرة.
ياريت نبدأ